الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
: وكان للخلفاء الفاطميين منظرة خارج باب الفتوح وكان يومئذ خرج عن باب الفتوح براحًا فيما بين الباب وبين البساتين الجيوشية وكانت هذه المنظرة معدة لجلوس الخليفة فيها عند عرض العساكر ووداعها إذا سارت في البر إلى البلاد الشامية. قال ابن المأمون: وفي هذا الشهر يعني المحرم سنة سبع عشرة وخمسمائة وصلى رسل ظهير الدين طفدكين صاحب دمشق وآق سنقر صاحب حلب بكتب إلى الخليفة الآمر بأحكام الله وإلى الوزير المأمون إلى القصر فاستدعوا لتقبيل الأرض كما جرت العادة من إظهار التجمل وكان مضمون الكتب بعد التصدير والتعظيم والسؤال والضراعة أن الأخبار تظافرت بقلة الفرنج بالأعمال الفلسطينية والثغور الساحلية وأن الفرصة قد أمكنت فيهم والله قد أذن بهلاكهم وأنهم ينتظرون إنعام الدولة العلوية وعوايد أفضالها ويستنصرون بقوتها ويحثون على نصرة الإسلام وقطع دابر الكفر وتجهيز العساكر المنصورة والأساطيل المظفرة والمساعدة على التوجه نحوهم لئلا يتواصل مددهم وتعود إلى القوة شوكتهم فقوي العزم على النفقة في العساكر فارسها وراجلها وتجريدها وتقدم إلى الأزمة بإحضار الرجال الأقوياء وابتدئ بالنفقة في الفرسان بين يدي الخليفة في قاعة الذهب وأحضر الوزانون وصناديق المال وأفرغت الأكياس على البساط واستمر الحال بعد ذلك في الدار المأمونية. وتردد الرأي فيمن يتقدم فوقع الاتفاق على حسام الملك البرني وأحضر مقدم الأساطيل لأن الأساطيل توجهت في الغزو وخلع عليه وأمر بأن ينزل إلى الصناعتين بمصر والجزيرة وينفق في أربعين شينيًا ويكمل نفقاتها وعددها ويكون التوجه بها صحبة العسكر وأنفق في عشرين من الأمراء للتوجه صحبته فكملت النفقة في الفارس والراجل وفي الأمراء السائرين وفي الأطباء والمؤذنين والقراء وندب من الحجاب عدة وجعل لكل منهم خدمة فمنهم من يتولى خزانة الخيام وسير معه من حاصل الخزائن برسم ضعفاء العسكر ومن لا يقدر على خيمة خيم ومنهم حاجب على خزائن السلاح وأنفق في عدة من كتاب ديوان الجيش لعرض العساكر وفي كتاب العربان: وأحضر مقدمو الحراسين بالخفار وتقدم إليها بأنه من تأخر عن العرض بعسقلان وقبض النفقة فلا واجب له ولا إقطاع وكتبت الكتب إلى المستخدمين بالثغور الثلاثة: الإسكندرية ودمياط وعسقلان بإطلاق وابتياع ما يستدعي برسم الأسمطة على ثغر عسقلان للعساكر والعربان من الأصناف والغلال. ووقع الاهتمام بنجاز أمر الرسل الواصلين وكتبت الأجوبة عن كتبهم وجهز المال والخلع المذهبات والأطواق والسيوف والمناطق الذهب والخيل بالمراكب الحلي الثقال وغير ذلك من التجملات وخلع على الرسل وأطلق لهم التغيير وسلمت إليهم الكتب والتذاكر وتوجهوا صحبة العسكر. وركب الخليفة الآمر بأحكام الله إلى باب الفتوح ونظر بالمنظرة واستدعى حسام الملك وخلع عليه بدلة جليلة مذهبة وطوقه بطوق ذهب وقلده ومنطقه بمثل ذلك ثم قال الوزير المأمون للأمراء: بحيث يسمع الخليفة هذا الأمير مقدمكم ومقدم العساكر كلها وما وعد به أنجزته وما قرره أمضيته فقبلوا الأرض وخرجوا من بين يديه وسلم متولي بيت المال وخزائن الكسوة لحسام الملك الكتب بما ضمنته الصناديق من المال وأعدال الكسوات وحملت قدامه وفتحت طاقات المنظرة فلما شاهد العساكر الخليفة قبلوا الأرض فأشار إليهم بالتوجه فساروا بأجمعهم وركب الخليفة وتوجه إلى الجامع بالمقس وجلس بالمنظرة واستدعى مقدم الأسطول وخلع عليه وانحدرت الأساطيل مشحونة بالرجال والعدة. منظرة الصناعة: وكان من جملة مناظر الخلفاء بالصناعة في الساحل القديم من مصر يجلس بها الخليفة تارة حتى تقدم له العشاريات فيركبها ويسير للمقيسا حتى يخلق بين يديه عند الوفاء وكان بهذه الصناعة ديوان العمائر. وأنشأ هذه المنظرة والصناعة التي هي فيها: الوزير المأمون لم تزل إلى آخر الدولة ودهليزها ماد بمصاطب مفروشة بالحصر العبداني بسطًا وتأزيرًا وقد خربت هذه الصناعة والمنظرة وصار موضعهما الآن بستانًا كان يعرف ببستان ابن كيسان ويعرف في زمننا هذا الذي نحن فيه الآن ببستان الطواشي وهو بأول مراغة مصر تجاه غيط الجرف على يسرة من يسلك من المراغة يريد الكيارة وباب مصر. قال ابن المأمون: وكانت جميع مراكب الأساطيل ما تنشأ إلا بالصناعة التي بالجزيرة فأنكر الوزير المأمون ذلك وأمر بأن يكون إنشاء الشواني وغيرها من المراكب النيلة الديوانية بالصناعة بمصر وأضاف إليها دار الزبيب وأنشأ المنظرة بها واسمه باق إلى الآن عليها وقصد بذلك أن يكون حلول الخليفة يوم تقدمة الأساطيل ورميها بالمنظرة المذكورة وأن يكون ما ينشأ من الجراني والشلنديات في الصناعة بالجزيرة. قال: ولما وفي النيل ستة عشر ذراعًا ركب الخليفة والوزير إلى الصناعة بمصر ورميت وقال ابن الطوير: الخدمة في ديوان الجهاد ويقال له: ديوان العمائر وكان محله بصناعة الإنشاء بمصر للأسطول والمراكب الحاملة للغلات السلطانية والأحطاب وغيرها وكانت تزيد على خمسين عشاريًا ويليها عشرون ديماسًا منها عشرة برسم خاص الخليفة أيام الخليج وغيرها ولكل منها رئيس ونواتي لا يبرحون ينفق فيهم من مال هذا الديوان وبقية العشاريات الدوامس برسم ولاة الأعمال المميزة فهي تجر لهم وينفي في رؤسائها ورجالها أينما كانوا من مال هذا الديوان وتقيم مع أحدهم مدة مقامه فإذا صرف عاد فيه وخرج المتولي الجديد في العشاري المرسي بالصناعة ولا يخرج إلا بتوقيع بإطلاقه والإنفاق فيه وللمشارفين بالأعمال عشاريات دون هذه وفي هذا الديوان برسم خدمة ما يجري في الأساطيل نائبان من قبل مقدم الأسطول وفيه من الحواصل لعمارة المراكب شيء كثير وإذا لم يف ارتفاعه بما يحتاج إليه استدعى له من بيت المال ما يسد خلله. قال: وكان من أهم أمورهم احتفالهم بالأساطيل والأجناد ومواصلة إنشاء المراكب بمصر والإسكندرية ودمياط من الشواني الحبرية والشلنديات والمسطحات إلى بلاد الساحل حين كانت بأيديهم مثل صور وعكا وعسقلان وكانت جريدة قواده أكثر من خمسة آلاف مدونة منهم عشرة أعيان تصل جامكية كل منهم إلى عشرين دينارًا ثم إلى خمسة عشر ثم إلى عشرة دنانير ثم إلى ثمانية ثم إلى دينارين وهي أقلها ولهم إقطاعات تعرف: بأبواب الغزاة بما فيه من النطرون فيصل دينارهم بالمناسبة إلى نصف دينار وحواليه ويعين من هؤلاء القواد العشرة من يقع الإجماع عليه لرئاسة الأسطول المتوجه للغزو فيكون معه الفانوس وكلهم يهتدون به ويقلعون بإقلاعه ويرسون بإرسائه ويقدم على الأسطول أمير كبير من أعيان الأمراء وأقواهم جنانًا ويتولى النفقة فيهم للغزو الخليفة بنفسه بحضور الوزير فإذا أراد النفقة فيما تعين من عدة المراكب السائرة. وكانت آخر وقت تزيد على خمسة وسبعين شينيًا وعشر مسطحات وعشر حمالة فيتقدم إلى النقباء بإحضار الرجال ويسمع بذلك من هو خارج مصر والقاهرة فيدخل إليها ولهم المشاهرة والجرايات المتقررة مدة أيام السفر وهم معروفون عند عشرين نقيبًا ولا يعترض أحد أحدًا إلا من رغب في ذلك من نفسه فإذا اجتمعت العدة المغلقة للمراكب المطلوبة أعلم المقدم بذلك الوزير فطالع الخليفة بالحال وفرز يوم للنفقة فحضر الوزير بالاستدعاء على العادة فيجلس الخليفة على هيئته في مجلس ويجلس الوزير في مكانه ويحضر صاحبا ديوان الجيش وهما المستوفي وهو أميرهما ويجلس داخل عتبة المجلس وهذه رتبة له مميزة وكاتبالجيش الأصل ويجلس بجانبه تحت العتبة على حصر مفروشة بالقاعة ولا يخلو المستوفي أن يكون عدلًا أو من أعيان الكتاب المسلمين وأما كاتب الجيش: فيهودي في الأغلب ويفرش أمام المجلس أنطاع تصب عليها الدراهم ويحضر الوزانون ببيت المال لذلك فإذا تهيأ الإنفاق أدخل القابضون مائة مائة ويقفون في آخر الوقوف بين يدي الخليفة ويستدعي مستوفي الجيش من تلك الأوراق واحدًا واحدًا فإذا خرج اسمه عبر من الجانب الذي هو فيه إلى الجانب الخالي فإذا تكمل عشرة رجلا: وزن الوزانون لهم النفقة وكانت لكل واحد خمسة دنانير صرف كل دينار ستة وثلاثون درهمًا فيتسلمها النقيب وتكتبت بيده وباسمه وتمضي النفقة كذلك إلى آخرها فإذا تم ذلك اليوم ركب الوزير من بين يدي الخليفة وانفض ذلك الجمع فيحمل من عند الخليفة مائدة يقال لها: غداء الوزير هي سبع مجيفات أوساط إحداها بلحم دجاج وفستق والبقية من شواء وهي مكمورة بالأزهار فتكون هذه عدة أيام تارة متوالية وتارة متفرقة فإذا تكملت النفقة وتجهزت المراكب وتهيأت للسفر: ركب الخليفة والوزير إلى ساحل المقس وذكر بن أبي طي: أن المعز لدين الله أنشأ ستمائة مركب لم ير مثلها في البحر على مدينة وعمل دار صناعة بالمقس. دار الملك: وكان من جملة مناظرهم: دار الملك بمصر وهي من إنشاء الأفضل بن أمير الجيوش ابتدأ في بنائها وإنشائها في سنة إحدى وخمسمائة فلما كملت تحول إليها من دار القباب بالقاهرة وسكنها وحول إليها الدواوين من القصر فصارت بها وجعل فيها الأسمطة واتخذ بها مجلسًا سماه: مجلس العطايا كان يجلس فيه فلما قتل الأفضل صارت دار الملك هذه من جملة منتزهات الخلفاء وكان بها بستان عظيم وما زالت عظيمة إلى أن انقرضت الدولة فجعلها الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب دار متجر ثم عملت في أيام الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري: دار وكالة وموضع دار الملك: ما وراء حبة الخروب بجوار المدرسة المعزي وبقي منها جدار يجلس تحته بياعو الحناء. قال ابن المأمون: ومن جملة ما قرره القائد أبو عبد الله من تعظيم المملكة وتفخيم أمر السلطنة أن المجلس الذي يجلس فيه الأفضل بدار الملك يسمى: مجلس العطايا فقال القائد: مجلس يدعى بهذا الاسم ما يشاهد فيه دينار يدفع لمن يسأل وأمر بتفصيل ثمان ظروف ديباج أطلس من كل لون اثنين وجعل في سبعة منها خمسة وثلاثين ألف دينار وفي كل ظرف: خمسة آلاف دينار سكب وبطاقة بوزنه وعدده وشرابة حرير كبيرة من ذلك ستة ظروف دنانير بالسوية عن اليمين والشمال في مجلس العطايا الذي برسم الجلوس وعند مرتبة الأفضل بقاعة اللؤلؤة: ظرفان أحدهما دنانير والآخر دراهم جدد فالذي في اللؤلؤة برسم ما يستدعيه الأفضل إذا كان عند الحرم وأما الذي في مجلس العطايا فإن جميع الشعراء لم يكن لهم في الأيام الأفضلية ولا فيما قبلها على الشعر جار وإنما كان لهم إذا اتفق طرب السلطان واستحسانه لشعر من أنشد منهم ما يسهله الله على حكم الجائزة فرأى القائد أن يكون ذلك من بين يديه من الظروف وكذلك من يتضرع ويسأل في طلب صدقة أو ينعم عليه ابتداء بغير سؤال يخرج ذلك من الظروف. وإذا انصرف الحاضرون نزل القائد المبلغ بخطه في البطاقة ويكتب عليه الأفضل بخطه: صح ويعاد إلى الظرف ويختم عليه فلما استهل رجب من سنة اثنتي عشرة وخمسمائة وجلس الأفضل في مجلس العطايا على عادته وحضر الأجل المظفر أخوه للهناء وجلس بين يديه وشاهد الظروف والقائد وولده وأخوه قيام على رأسه وتقدمت الشعراء على طبقاتهم أمر لكل منهم بجائزة وشاع خبر الظروف وكثر القول فيها واستعظم أمرها وضوعف مبلغها واتسع هذا الإنعام بالصدقات الجاري بها العادة في مثل هذا الشهر لفقهاء مصر والرباطات بالقرافة وفقرائها. وقال ابن الطوير: وقد ذكر ركوب الخليفة في أول العام وحضور العزة وينقطع الركوب بعد هذا اليوم الذي هو أول العام فيركبون في آحاد الأيام إلى أن يكمل شهر ولا يتعدى ذلك يومي السبت والثلاثاء فإذا عزم الخليفة على الركوب في أحد هذه الأيام أعلم بذلك وعلامته إنفاق الأسلحة في صبيان الركاب من خزانة السلاح خاصة دون ما سواها وأكثر ذلك إلى مصر ويركب الوزير صحبته من ورائه على أخصر من النظام المتقدم يعني في ركوب أول العام وأقل جمع فيخرج شاقًا القاهرة وشوارعها على الجامع الطولوني على المشاهد إلى درب الصفاء ويقال له: الشارع الأعظم إلى دار الأنماط إلى الجامع العتيق إذا وصل إلى بابه وجد الشريف الخطيب قد وقف على مصطبة بجانبه فيها محراب مفروشة بحصر معلق عليها سجادة وفي يده المصحف المنسوب خطه إلى علي بن أبي طالب رضي الله وهو من حاصله فإذا وقف في موضعه وناوله المصحف من يده فيتسلمه منه ويقبله ويتبرك به مرارًا ويعطيه صاحب الخريطة المرسومة للصلات: ثلاثين دينارًا وهي رسمه متى اجتاز به فيوصلها الشريف إلى مشارف الجامع فيكون نصيبهما منها خمسة عشر دينارًا والباقي للقومة والمؤذنين دون غيرهم. ويسير إلى أن يصل دار الملك فينزلها والوزير معه ومنذ يخرج من باب القصر إلى أن يصل إلى دار الملك لا يمر بمسجد إلا أعطى قيمة من الخريطة دينارًا فلا يزال بدار الملك نهاره فتأتيه المائدة من القصر وعدتها: خمسون شدة على رؤوس الفراشين مع صاحب المائدة وهو أستاذ جليل غير محنك وكل شدة فيها: طيفور فيها الأواني الخاص وفيها من الأطعمة الخاص من كل نوع شهي وكل صنف من المطاعم العالية ولها رواء ورائحة المسك فائحة منها وعلى كل شدة طرحة حرير تعلو القوارة التي هي الشدة فيحمل إلى الوزير منها جزء وافر ولمن صحبه وللأمراء ولكافة الحاضرين في الخدمة ويصل منها إلى الناس بمصر ممن بعضهم بعضًا شيء كثير ولا يزال إلى أن يؤذن عليه بالعصر فيصلي ويتحرك إلى العود إلى القاهرة والناس في طريقه لنظره فيركب وزيه في هذه الأيام أنه يلبس الثياب المذهبة البياض والملونة والمنديل من النسبة وهو مشدود شدة مفردة عن شدات الناس وذؤابته مرخاة من جانبه الأيسر ويتقلد بالسيف العربي المجوهر بغير حنك ولا مظلة ولا يتيمة فإن ذلك في أوقات مخصومة ولا يمر أيضًا بمسجد في سلوكه في هذه الطريق بالساحل إلا ويعطي قيمه دينارًا أيضًا كما جرى في الرواح وينعطف من باب الخرق ويدخل من باب زويلة شاقًا القاهرة حتى يدخل القصر فيكون ذلك من المحرم إلى شهر رمضان إما أربع مرات أو خمس مرات ومن شعر الأسعد أسعد من مهذب بن زكريا بن أبي مليح مما في دار الملك هذه: حللت بدار الملك والنيل آخذ بأطرافها والموج يوسعها ضربا فخيلته قد غار لما وطئتها عليها فأضحى عند ذاك لها خربا منازل العز بنتها السيدة تغريد أم العزيز بالله بن المعز ولم يكن بمصر أحسن منها وكانت مطلة على النيل لا يحجبها شيء عن نظره وما زال الخلفاء من بعد المعز يتداولونها وكانت معدة لنزهتهم منسوبة للملك المظفر تقي الدين عمرو بن شاهنشاه بن نجم الدين أيوب بن شادي. الهودج: وكان من منتزهاتهم العظيمة البناء العجيبة البديعة الزي بناء في جزيرة الفسطاط التي تعرف اليوم: بالروضة يقال له: الهودج بناه الخليفة الآمر بأحكام الله لمحبوبته البدوية التي غلب عليه حبها بجوار البستان المختار وكان يتردد إليه كثيرًا وقتل وهو متوجه إليه وما زال منتزهًا للخلفاء من بعده. قال ابن سعيد في كتاب المحلى بالأشعار: قال القرطبي في تاريخه: تذاكر الناس في حديث البدوية وابن مياح من بني عمها وما يتعلق بذلك من ذكر الآمر حتى صارت رواياتهم في هذا الشأن كأحاديث البطال وألف ليلة وليلة وما أشبه ذلك. والاختصار منه أن يقال: إن الآمر كان قد بلي بعشق الجواري العربيات وصارت له عيون بالبوادي فبلغه أن جارية بالصعيد من أكمل العرب وأظرفهم شاعرة جميلة فيقال: إنه تزيا بزي بداة الأعراب وكان يجول في الأحياء إلى أن انتهى إلى حيها وبات هناك في ضائقة وتحيل حتى عاينها هنالك فما ملك صبره ورجع إلى مقر ملكه وأرسل إلى أهلها يخطبها وتزوجها فلما وصلت صعب عليها مفارقة ما اعتادته وأحبت أن تسرح طرفها في الفضاء ولا تنقبض نفسها تحت حيطان المدينة فبنى لها البناء المشهور في جزيرة الفسطاط المعروف بالهودج وكان غريب الشكل على شط النيل وبقيت متعلقة الخاطر بابن عم لها ربيت معه يعرف: بابن مياح فكتبت إليه من قصر الآمر: يا ابن مياح إليك المشتكي مالك من بعد قد ملكا كنت في حيي مطاعًا آمرًا نائلًا ما شئت منكم مدركا فأنا الآن بقصر مرصد لا أرى إلا خبيثًا ممسكًا كم تثنينا كأغصان اللوا حيث لا نخشى علينا دركا فأجابها: بنت عمي والتي غذيتها بالهوى حتى علا واحتبكا بحت بالشكوى وعندي ضعفها لو غدا ينفع منا المشتكى مالك الأمر إليه أشتكي مالك وهو الذي قد ملكا قال: وللناس في طلب ابن مياح واختفائه أخبار تطول وكان من عرب طي في قصر الآمر: طراد بن مهلهل السنبسي فبلغته هذه القضية فقال: ألا بلغوا الآمر المصطفى مقال طراد ونعم المقال قطعت الأليفين عن ألفة بها سمر الحي بين الرجال كذا كان آباؤك الأكرمون سالت فقل لي جواب السؤال فقال الخليفة الآمر: لما بلغته الأبيات جواب سؤاله قطع لسانه على فضوله وطلب في أحياء العرب فلم يوجد فقالت العرب: ما أخسر صفقة طراد باع أبيات الحي بثلاثة أبيات وكان بالإسكندرية: مكين الدولة أبو طالب احمد بن عبد المجيد بن أحمد بن الحسن بن حديد له مروءة عظيمة ويحتذى أفعال البرامكة وللشعراء فيه أمداح كثيرة مدحه ظافر الحداد وأمية بن أبي الصلت وغيرهما. وكان له بستان يتفرج فيه به جرن كبير من رخام وهو قطعة واحدة وينحدر فيه الماء فيبقى كالبركة من كبره وكان يجد في نفسه برؤيته زيادة على أهل التنعم والمباهاة في عصره فوشى به للبدوية محبوبة الآمر فسألت الخليفة الآمر في حمل الجرن إليها فأرسل إلى ابن حديد بإحضار الجرن فلم يجد بدًا من حمله من البستان فلما صار إلى الآمر أمر بعمله في الهودج فقلق ابن حديد وصارت في قلبه حرارة من أخذ الجرن فأخذ يخدم البدوية ومن يلوذبها بأنواع الخدمة العظيمة الخارجة عن الحد في الكثرة حتى قالت البدوية: هذا الرجل أخجلنا بكثرة تحفه ولم يكلفنا قط أمرًا نقدر عليه عند الخليفة مولانا فلما قيل له هذا القول عنها قال: ما لي حاجة بعد الدعاء لله بحفظ مكانها وطول حياتها في عز ردد الفسقية التي قلعت من داري التي بنيتها في أيامها من نعمتهم ترد إلى مكانها فتعجبت من ذلك وردتها عليه فقيل له: حصلت في حد أن خيرتك البدوية في جميع المطالب فنزلت همتك إلى قطعة حجر فقال: أنا أعرف بنفسي ما كان لها أمل سوى أن لا تغلب في أخذ ذلك الحجر من مكانه وقد بلغها الله أملها وكان هذا المكين قضاء الإسكندرية ونظرها في أيام الآمر. وبلغ من علو همته وعظم مروءته أن سلطان الملوك حيدرة أخا الوزير المأمون بن البطائحي: لما قلده الآمر ولاية ثغر الإسكندرية في سنة سبع عشرة وخمسمائة وأضاف إليه الأعمال البحرية ووصل إلى الثغر ووصف له الطبيب دهن شمع بحضور القاضي المذكور فأمر في الحال بعض غلمانه بالمضي إلى داره لإحضار دهن شمع. فما كان أكثر من مسافة الطريق إلى أن أحضر حقًا مختومًا فك عنه فوجد فيه منديل لطيف مذهب على مداف بلور فيه: ثلاثة بيوت كل بيت عليه قبة ذهب مشبكة مرصعة بياقوت وجوه بيت دهن بمسك وبيت دهن بكافور وبيت دهن بعنبر طيب ولم يكن فيه شيء مصنوع لوقته فعندما أحضره الرسول تعجب المؤتمن والحاضرون من علو همته فعندما شاهد القاضي ذلك بالغ في شكر أنعامه وحلف بالحرام إن عاد إلى ملكه فكان جواب المؤتمن قد قبلته منك لا لحاجة إليه ولا لنظر في قيمته بل لإظهار هذه الهمة وإذاعتها وذكر أن قيمة هذا المداف وما عليه: خمسمائة دينار فانظر رحمك الله إلى من يكون دهن الشمع عنده في إناء قيمته: خمسمائة دينار ودهن الشمع لا يكاد أكثر الناس يحتاج إليه البتة فماذا تكون ثيابه وحلي نسائه وفرش داره وغير ذلك من التجملات وهذا إنما هو حال قاضي الإسكندرية ومن قاضي الإسكندرية بالنسبة إلى أعيان الدولة بالحضرة وما نسبة أعيان الدولة وإن عظمت أحوالهم إلى أمر الخلافة وأبهتها إلا يسير حقير. وما زال الخليفة الآمر يتردد إلى الهودج المذكور إلى أن ركب يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة يريد الهودج وقد كمن له عدة من النزارية في فرن عند رأس الجسر من ناحية الروضة فوثبوا عليه وأثخنوه بالجراحة حتى هلك وحمل في العشاري إلى اللؤلؤة فمات بها وقيل: قبل أن يصل إليها وقد خرب هذا الهودج وجهل مكانه من الروضة ولله عاقبة الأمور. قصر القرافة: وكان لهم بالقرافة قصر بنته: السيدة تغريد أم العزيز بالله بن المعز في سنة: ست وستين وثلثمائة على يد الحسين بن عبد العزيز الفارسي المحتسب هو والحمام الذي في غربيه وبنت البئر والبستان وجامع القرافة وكان هذا القصر نزهة من النزه من أحسن الآثار في إتقان بنيانه وصحة أركانه وله منظرة مليحة كبيرة محمولة على قبو ماد تجوز المارة من تحته ويقيل المسافرون في أيام القيظ هناك ويركب الراكب إليه على زلاقة وكان كأحسن ما يكون من البناء وتحته حوض لسقي الدواب يوم الحلول فيه وكان مكانه بالقرب من مسجد الفتح. ولما كان في سنة عشرين وأربعمائة جدده الخليفة الآمر وعمل تحته مصطبة للصوفية وكان يجلس في الطاق بأعلى القصر ويرقص أهل الطريقة من الصوفية والمجامر بالألوية موضوعة بين أيديهم والشموع الكثيرة تزهر وقد بسط تحتهم حصر من فوقها بسط ومدت لهم الأسمطة التي عليها كل نوع لذيذ ولون شهي من الأطعمة والحلوى أصنافًا مصنفة فاتفق أن تواجد الشيخ الشيخ أبو عبد الله بن الجوهري الواعظ ومزق مرقعته وفرقت على العادة خرقًا وسأل الشيخ أبو إسحاق إبراهيم المعروف بالقارح المقري خرقة منها ووضعها في رأسه فلما فرغ التمزيق قال الخليفة الآمر بأحكام الله: من طاق بالمنظرة يا شيخ أبا إسحاق قال: لبيك يا مولانا قال: أين خرقتي فقال مجيبًا له في الحال: ها هي على رأسي يا أمير المؤمنين فاستحسن الآمر ذلك وأعجبه موقعه فأمر في الساعة والوقت فأحضر من خزائن الكسوات ألف نصفية ففرقت على الحاضرين وعلى فقراء القرافة ونثر عليهم متولي بيت المال من الطاق ألف دينار فتخاطفها الحاضرون وتعاهد المغربلون الأرض التي هناك أيامًا لأخذ ما يواريه التراب وما برح قصر الأندلس بالقرافة حتى زالت الدولة فهدم في شهر ربيع الآخر سنة سبع وستين وخمسمائة. المنظرة ببركة الحبش: وكانت لهم منظرة تشرف على بركة الحبش قال الشريف أبو عبد الله محمد الجواني في كتاب النقط على الخطط: إن الخليفة الآمر بأحكام الله بنى على المنظرة التي يقال لها بئر دكة الخركة منظرة من خشب مدهونة فيها طاقات تشرف على خضرة بركة الحبش وصور فيها الشعراء كل شاعر وبلده واستدعى من كل واحد منهم قطعة من الشعر في المدح وذكر الخركاة وكتب ذلك عند رأس كل شاعر وبجانب صورة كل منهم رف لطيف مذهب فلما دخل الآمر وقرأ الأشعار أمر أن يحط على كل رف صرة مختومة فيها: خمسون دينارًا وأن يدخل كل شارع ويأخذ صرته بيده ففعلوا ذلك وأخذوا صررهم وكانوا عدة شعراء.
|